الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أيها المؤمنون: نحن في هذه الأيام في شهر رمضان، شهر الصيام والقيام، الضيف الكريم الذي يأتينا بكل خير، شهر تغلق فيه أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان، وتسلسل الشياطين.
في مثل هذه اللحظات يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم هذا الشهر الكريم، والضيف العزيز، ولكن! يجب علينا هنا أن نتنبه لكثير من المسائل التي تهمنا في أمور ديننا لاسيما في مثل هذه العبادة العظيمة؛ ليكون صيامنا على أحسن المراتب والمقامات، ولتصبح أعمالنا كلها مأخوذة من تعاليم ديننا الحنيف.
ومن تلك الأمور التي يجب أن نضعها في ميزان الشريعة؛ ليتبين لنا حكمها وشرعيتها: التهنئة بحلول شهر رمضان الكريم.
وقد تكلم في حكم التهنئة أناس كثير فمنهم المجوّز ومنهم المانع.
فنقول مستعينين بالله: في البداية لا بد من تأصيل موضوع التهنئة، فيقال: التهاني من حيث الأصل من باب العادات، والتي الأصل فيها الإباحة، حتى يأتي دليل يخصها، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر.
قال الشيخ العلامة: عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله تعالى- في منظومة القواعد:
والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ
وليس مشروعاً من الأمور
حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ
غير الذي في شرعنا مذكور1
ثم قال -رحمه الله- معلقاً على ذلك: "وهذان الأصلان العظيمان ذكرهما شيخ الإسلام -رحمه الله- في كتبه، وذكر أن الأصل الذي بنى عليه الإمام أحمد مذهبه: أن العادات الأصل فيها الإباحة، فلا يحرم منها إلاّ ما ورد تحريمه... إلى أن قال: فلا يحرم منها إلاّ ما حرّمه الله ورسوله، إما نصّاً صريحاً، أو يدخل في عموم، أو قياسٍ صحيح، وإلاّ فسائر العادات حلال، والدليل على حلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (29) سورة البقرة.2
وإذا كانت التهاني من باب العادات، فلا ينكر منها إلاّ ما أنكره الشرع، ولذا مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب، بل رغب في بعضها، وحرّم بعضها، كالسجود للتحية.
وأما بالنسبة لحكم التهنئة بدخول الشهر الكريم فقد روى ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه عن سلمان -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يومٍ من شعبان، فقال: (أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة،...) الحديث.3 .
قال ابن رجب -رحمه الله-: "... هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضاً في شهر رمضان"4. وإنما تأخر الاستدلال به على مسألتنا لأنه لم يثبت، بل هو حديث منكر كما قال الشيخ الألباني؛ ولذا: بوّب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه بقوله: باب فضائل شهر رمضان، إن صحّ الخبر.
وذهب الجمهور من الفقهاء إلى أن التهنئة بالعيد لا بأس بها، بل ذهب بعضهم إلى مشروعيتها، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد -رحمه الله-، ذكرها ابن مفلح -رحمه الله- في "الآداب الشرعية"، وذكر أن ما روي عنه من أنها لا بأس بها هي أشهر الروايات عنه5.
وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم؟ قال: لا بأس، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل: وواثلة بن الأسقع، قال: نعم، قيل: فلا تكره أن يقال: هذا يوم العيد؟، قال: ل6.
ولا ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمةٌ دينية، فهي أولى وأحرى بأن يُهنّأ المسلم على بلوغها، كيف وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله -عز وجل- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وفي الستة الأخرى يسألونه القبول؟، ونحن نرى العشرات، ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم الشهر، فإذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها، فإن جوازها في دخول شهر رمضان الذي هو موسمٌ من أعظم مواسم الطاعات، وتنزل الرحمات، ومضاعفة الحسنات، والتجارة مع الله.. من باب أولى.
وقد سئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عن التهنئة بدخول شهر رمضان، فقال: طيبة جدّاً.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ونسأل الله تعالى أن يبلغنا وإياكم صيام هذا الشهر الكريم ويوفقنا لقيامه كل ذلك إيماناً واحتساباً، والله أعلم.7